قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى:
[وقيل: إنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أخرج الأرواح قبل خلق الأجساد، وإنه جعل فيها من المعرفة ما علمت به ما خاطبها. ثُمَّ ذكر القرطبي بعد ذلك الأحاديث الواردة في ذلك، إِلَى آخر كلامه.
وأقوى ما يشهد لصحة القول الأول: حديث أنس المخرج في الصحيحين الذي فيه: {قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ، قَدْ أَخَذْتُ عَلَيْكَ في ظَهْرِ آدَمَ أنْ لا تُشْرِكَ بي شَيْئاً، فَأَبَيْتَ إلاَّ أنْ تُشْرِكَ بي}. ولكن قد روي من طريق أخرى: {قد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل، فيرد إِلَى النَّار}. وليس فيه: {في ظهر آدم}. وليس في الرواية الأولى إخراجهم من ظهر آدم عَلَى الصفة التي ذكرها أصحاب القول الأول.
بل القول الأول متضمن لأمرين عجيبين: أحدهما: كون النَّاس تكلموا حينئذ وأقروا بالإيمان وأنه بهذا تقوم الحجة عليهم يَوْمَ القِيَامَةِ والثاني: أن الآية دلت عَلَى ذلك] اهـ.

الشرح :
يقول أصحاب القول الأول: كيف يقول الله تَعَالَى في ظاهر الآية: ((أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا)) [الأعراف:172] فكيف تخرجون هذا القول وتصرفونه عن ظاهره أنه قول إلى مجرد أنه إقرار. أي: أنه إقرار وممن ذكر ذلك الفخر الرازي في تفسيره، وَقَالُوا: إن هذا القول ليس قولاً حقيقياً وإنما المقصود مجرد الإقرار واستدلوا بقوله تعالى: عندما خاطب السموات والأرض: ((ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)) [فصلت:11] فَقَالُوا: إن السموات والأرض لم تتكلم وإنما أذعنت وأقرت، فكان ذلك منزلة لو أنها نطقت، وهذا القول أيضا مرجوح.
فما المانع أن تنطق السموات والأرض وكل شيء يبقى عَلَى الظاهر، فالبشر في عالم الذر نطقوا ولا غرابه في ذلك عَلَى قدرة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وكذلك السموات والأرض نطقت ولا غرابة في ذلك عَلَى قدرة الله، فقد أنطق النمل وأنطق الهدهد وفقه ما تكلم به سليمان عَلَيْهِ السَّلام، وأنطق الجبال سبحن مع داود بالعشي والإبكار، فما المانع أن تنطق السموات والأرض وينطق الإِنسَان في عالم الذر، في الحقيقة أن كل هذه الآيات لا حجة لهم فيها، لأننا لم نوافقهم عَلَى أن السموات والأرض لم تنطق، وإنما هو مجرد إقرار.
فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قادر عَلَى كل شيء، ويَوْمَ القِيَامَةِ إذا جحد الجاحدون والمكابرون ذنوبهم وأعمالهم ختم الله عَلَى أفواههم وتكلمت أيديهم وتشهد أرجلهم وتنطق جلودهم؛ بل في آخر الزمان أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه يكلم الرجل فخذه وعذبة سوطه، وتخبره ما فعل أهله من بعده، وهناك أشياء كثيرة ثابتة لا مجال الآن لاستعراضها، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يعجزه شيء
وقد ذهب إِلَى هذا القول القفال وغيره من الذين فسروا الآية عَلَى خلاف ظاهرها.

[وقيل: إنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أخذ الأرواح قبل خلق الأجسام؛ وأنه جعل فيها من المعرفة ما علمت به ما خاطبها، ثُمَّ ذكر القرطبي بعد ذلك الأحاديث الواردة في ذلك إِلَى آخر كلامه] ولا جديد في كلام القرطبي وإنما ذكره المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ ليبين أنه ذكر القولين، وأن المسالة خلافيه، والقول بأنه أخرج الأرواح هذا هو القول الذي يجري عَلَى ظاهر الآية.
ثُمَّ قال: [وأقوى ما يشهد بصحة القول الأول: حديث أنس المخرج في الصحيحين الذي فيه {قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ، قَدْ أَخَذْتُ عَلَيْكَ في ظَهْرِ آدَمَ أنْ لا تُشْرِكَ بي شَيْئاً، فَأَبَيْتَ إلاَّ أنْ تُشْرِكَ بي}] يقول: وهذا أقوى ما يشهد بصحة القول الأول، [وكفى به دليلاً قوياً] لأن حديث يرويه الإمامان الجليلان البُخَارِيّ ومسلم، فلا نطعن في صحته بأي وجه من الوجوه، وفيه التصريح بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أخذ العهد عَلَى بني آدم في ظهر أبيهم آدم ألا يشركوا به شيئا.
فلو نظرنا إِلَى منطوق الحديث، ومنطوق الآية لوجدنا أن منطوقهما واحد، وأنهما متظافران يدل بعضهما عَلَى ما يدل عليه الآخر. ولكن المُصنِّف رده بقوله: [ولكن قد روي من طريق أخرى: قد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل، فيرد إِلَى النَّار] والحقيقة أنه لا تعارض بين الروايتين: فهذه فسرت تلك؛ لأن الأيسر والأهون هو التوحيد، الذي هو يسير عَلَى من يسره الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عليه قَالَ: [وليس فيه: (في ظهر آدم)، وليس في الرواية الأولى إخراجهم من ظهر آدم عَلَى الصفة التي ذكرها أصحاب القول الأول] ولكن فيه أخذ الإقرار وأنه إقرار وإشهاد حقيقي، وبعض الأحاديث تبين بعض، وكذلك الآيات والأحاديث تفسر الآيات ثُمَّ قَالَ: [بل القول الأول متضمن لأمرين عجيبين أحدهما: كون النَّاس تكلموا حينئذ وأقروا بالإيمان، وأنه بهذا تقوم الحجة عليهم يَوْمَ القِيَامَةِ، والثاني: أن الآية دلت عَلَى ذلك].
يذكر المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: أن القول بأن الاستخراج كَانَ حقيقياً يتضمن أمرين عجيبين الأمر الأول: ما ذكره كثير ممن طعنوا في هذا القول وهو أن النَّاس تكلموا وأقروا بالإيمان وأنه بهذا تقوم الحجة عليهم يَوْمَ القِيَامَةِ، حتى قال بعضهم: إن هذا يشبه القول بمذهب التناسخ، وما هذا إلا من التعسف في الفهم والاستدلال، فما هو الغريب أن يكون النَّاس تكلموا وأقروا بالإيمان فإن هذا شيء ذكره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وفسرته الأحاديث المرفوعة والموقوفة فلا غرابة ولا عجب فيه، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق الأرواح واستنطقها، كما يستنطق ما شاء من خلقه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، قال: [وأنه تقوم الحجة عليهم يَوْمَ القِيَامَةِ].
ولا يقول أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ عموماً: إن الحجة يَوْمَ القِيَامَةِ تقوم عَلَى الإِنسَان بما أشهده الله تَعَالَى عليه في عالم الذر -أي: لما استخرجهم من ظهر أبيهم- وهل يجازي الإِنسَانُ يَوْمَ القِيَامَةِ ويحاسبه بناءً عَلَى ما أشهده الله وأقره في ذلك اليوم؟ لا، وإنما يخاطبون فيسألون ماذا أجبتم المرسلين؟ ((فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ)) [الأعراف:6] فالحجة التي يسأل عنها النَّاس هي إجابة المرسلين، ولا يمنع ذلك من أن يكون لهذه الحجة طريق مساندة وممهدة ومنها الفطرة وهذا الميثاق، فلو لم يكن إلا هذا الإقرار وهذا الميثاق لقال الناس: يا ربنا إن هذا الميثاق في أنفسنا لكنك لم تبعث إلينا رسولاً فيذكرنا أو يبين لنا، ولهذا قال عَزَّ وَجَلَّ: ((رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ))[النساء:165] فلا حجة بعد الرسل، فالرسل جاءوا يذكرون بالميثاق وبما في الفطرة، فهي أدلة بعضها يؤيد بعضاً ولا تعارض بينها.

وأما قوله: [إن الآية دلت عَلَى ذلك] فهذا ما يقوله أصحاب القول الأول، ثُمَّ أخذ يبني بأن الآية لا تدل عليه بوجه، وهذه الوجوه التي ذكرها المُصنِّف هنا مختصرة هي من كتاب الروح لـابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ،
ولهذا نذكر هذه الوجوه إن شاء الله ونشرحها إجمالاً.